سلايدرمقالات

د. هانى حسين يكتب: “دى زبالة يا جاهل”

من أهم المعايير التي يقاس عليها رقي المجتمع وسمو سلوكه وعلو همته علي مدار ما سلف من أزمنه، هي مدي اعتناء ذلك المجتمع واهتمامه بالنظافة الشخصية والعامة والتخلص السليم من نفاياته…

 

 والنظافة هي دأب تمليه الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها بل إن الأديان قد حرضت الفرد باعتباره أصغر وحده بنائيه في المجتمع على النظافة والسلوك النظيف الذي يقود بالتبعية إلى مجتمع نظيف راقٍ…

 

 ولا شك عندي فى أن النفس المحبة للجمال و المتطلعة إلى الطبيعة ببهائها و نضارتها وإبداع الخالق في تنميقها و ترتيبها على هذا النحو المعجز لا يمكن قط أن يكون فى طباعها إلقاء نفاياتها فى الطرق والساحات فتعمد إلى تشويه المرآى و تكدير المشهد بقبح ما تلقيه من قمامة دون الصناديق المخصصة لذلك تكاسلاً عن أن تمد الخطى بضعة أمتار أو من حماقة كتابة عبارات مسفة وإعلانات عشوائية على الجدران سواء أكانت خاصة كالمنازل أو عامة كالمدارس و الكبارى و أكشاك الكهرباء وغيرها كثر…

 

و يبدو أن ظاهرة المناديل الورقية والأكياس البلاستيكية الطائرة التى تحركها هبات الريح على الطرق السريعة بعد أن تلقى بها أيدى الاستهتار و اللا مبالاة من نوافذ السيارات الفارهة فى كثير الأحيان تدلل قطعا على أن النظافة و العناية بآداب الطريق إنما هو سلوك لا يعترف بالفوارق الإقتصادية بل هى ثقافة التحضر و الرقى الذى يفتقدها الكثيرون دون تمييز…

 

فما كان ضرك لو احتفظت بقمامتك حتى إذا و صلت إلى هدفك تخلصت منها فى أقرب صندوق قمامة …. لقد عنى أجدادنا المصريين القدماء بالنظافة أيما اعتناء حيث أشار المؤرخ الإغريقى “هيرودوت” إلى ذلك فى سياق حديثه عن عاداتهم “عجباً للمصريين يتناولون طعامهم بالخارج و يقضون حاجاتهم داخل بيوتهم و ليس خارجها” ومصدر الدهشة لديه هو خلاف ذلك لما كان معهودا لدى العالم آنذاك فضلا عن صناعتهم للمكانس من ألياف النباتات و حرصهم على نظافة أفنيتهم وطرقاتهم ونهر النيل و تفرعاته…

 

كما يُذكر أيضاً اعتناء حضارة سبأ و الحضارة الرومانية بالنظافة و جاء الإسلام بعد ذلك ليحث العرب على هذا الأمر إذ كانوا بمنأى عنه فحرضهم على نظافة الفكر بالبعد عن الخرافة و الأباطيل وعلى نظافة الروح بحسن الخلق وجميل السلوك والمعاملة والبدن بالطهارة والوضوء ونظافة البيوت و الطرقات والساحات بإماطة الأذى عن الطريق سواء أكان هذا الأذى صحى أو بصرى أو سمعى، وعنه صلى الله عليه وسلم ” نظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود”، إذ كان اليهود على هذا العهد لا يعبأون بأمر النظافة أيضاً فسارت الحضارة الإسلامية على هذا الهدى فى الوقت التى كانت فيه أوروبا فى عصور مظلمة بعيدة عن ركب الحضارة، و بالتالى بعيدة عن ثقافة الطهارة و النظافة كما يشير إلى ذلك الرحالة “أحمد بن فضلان”حين يتكلم عن عادات الأوروبين فى النظافة..

 

وفى الوقت الذى ميزت هذه الثقافة حضارة الأندلس تذكر الكتب أن إيزابيلا ملكة قشتاله و التى قوضت، و فرناندو آخر معاقل المجد الأندلسى لم تستحم طيلة حياتها سوى مرتين…صفوة القول أن النظافة عموماً هى قرينة الحضارة و التمدن و إغفال المحافظة على البيئة هو مؤشر تراجع المجتمعات وتخلفها …

 

وفى هذا السياق أناشد وسائل الإعلام بأنواعها تكثيف التوجيه و الإرشاد إلى أهمية الاعتناء بإلقاء المخلفات فى أماكنها المخصصة من خلال إعلانات توعوية متكررة و هنا يحضرنى مثيل ذلك حين كنا صغاراً نتابع التليفزيون المصرى، وهو يبث لنا مشهدا لقائد سيارة يلقى بكيس قمامة من نافذة سيارته ليلتقطها أحد المارة راكضاً خلفه منبهاً إياه بأنه فقد هذا الكيس إذ ربما وقع من سيارته سهواً ليرد عليه الأخر بعبارة أخذت شهرة بعض الوقت آنذاك “دى زبالة ياجاهل” وهنا يطرح الإعلام التوعوى الرشيد على المشاهد أو المستمع سؤالاً بشكل غير مباشر ترى أيهما هو الجاهل الحقيقى …

 

إن من يلقى بزبالته فى الطرق هو الزبال وهو الجاهل المستهتر و الغير متحضر مهما بلغ ثراؤه… وعلى وزارة البيئة أيضاً أن تتحرك حيال هذا الأمر مع الوزارت ذات الصلة بشكل يضاهى الحركه المتسارعة للحكومة  فى مجالات أخرى و إن كنت أظن أن تخرج وزيرتها فى أول تعديل وزارى..

 

ملف القمامة يحتاج إلى المزيد و المزيد من الجهد و العمل و الإفصاح عما تم فيه وعن حركة دؤوب تتجاوز روتينيات الماضى ..حفظ الله مصر وطناً وشعباً وجيشاً.