
نحن شخصيات جميع الأعمال الفنية، التى يتم معالجتنا بعدة طرق ولأكثر من مؤلف و مخرج، فنتحول من مجرد شخصيات إلى مجرد سطور تم كتابتها على عدة أوراق، ثم يعاد تدويرنا مرة أخرى، لنصبح عالم إنسانى من لحم ودم، نشاهده ونتفاعل معه، إما بالتعاطف، أو بالكره، وإما بعدم الشعور أو الاستقبال على الإطلاق، ولكن فى النهاية يجب أن يحدث لنا التطهر كنتيجة كما وضح (أرسطو)، وهذه المهمة الشاقة تتحقق عن طريق المؤلف وتعتبر إما وثيقة نجاحه، أو شهادة وفاته، أما للمخرج فتمثل الشخصيات له المستوى الأول، فهى أدوات تعبيره، وأيضاً يمكنها اجتياز هذا المستوى فتصبح روح العمل وصراعه وإيقاعه، فمن هنا يمكننا تناول مسلسل ( بين السما والأرض) كنموذج اعتمد بنسبة كبيرة على الشخصيات المختلفة، الذى يمكننا مشاهدتها بأكثر من مستوى، فكيف قدم المسلسل شخصياته، وهل نجح المسلسل فى ذلك أم لا ؟
بين الفكرة والدلالة
يعتمد المؤلف داخل النص على فكرة الصدفة، فكل الأشخاص تأتى العقار المشئوم صدفة، حتى وأن بعضها أتى متعمدا مثل قائد العصابة، ولكنه لا يعرف ذلك المصير، إذ فتتحول إلى صدفه أيضاً، ثم تأتى سيدة لمتابعة طبيب حملها، و ممثلتين يأتون لزيارة عمل مع المخرج، وصاحب مكتبة يأتى لتوصيل طلبية كتب، وأيضاً فتاة وشاب يأتون لممارسة الجنس أو القتل، وخادمة تعمل فى إحدى الشقق، ودكتور جامعى يأتى لقضاء مناسبة عيد ميلاد، ومريض نفسى يأتى هارباً ولا يجد أمامه سوى هذا العقار فيحتمى به، وشاب ملتحى دائم الاستغفار لانعرف لماذا يتواجد؟، فعن طريق الصدفة يتجمع “المحتجزين- المتهمون”، داخل المصعد الذى يصل كل مستويات وطوائف وفئات المجتمع، فتمثل دلالة المصعد الشكلية والمكانية معادلة للدلالة النفسية لكل هؤلاء بين الصعود والهبوط، فالمصعد هنا مكان محدود المساحة، يبدأ من التقيد الجسدى النابع من عدم حرية الحركة، نتيجة لتزاحم الأجساد تبعاً لضيق مساحته، حتى الوصول إلى التقيد النفسى، والطبقى لهم؛ ومن هذه الأرضية انطلق المؤلف لتقديم شخصياته المحتجزين بل المتهمون بجرائم تجاه أنفسهم تارة وتجاه مجتمعهم تارة أخرى، فكلهم متهمون إلا اثنين فقط.
بين العلم والجهل
فتأتى رمزية اسم “شاكر” متصلة مع صفاته فهو شاكراً للقدر الذى أعطى له ابناً فى وقتاً متأخراً من العمر، وشاكراً لموت زوجته، وتحمل تربية هذا الإبن، فيرمز له المؤلف برمز العلم فهو صاحب مكتبة الأصالة تحت شعار (علم – ثقافة – سياسة) الذى يمثل الحكمة الدائمة داخل المصعد وخارجه، والذى يفضل الكاتب أن يموت بفعل القدر قبل أن يصدر الكاتب عليه الحكم بالموت، وقدم العديد من الإرهاصات التى تؤكد حتمية موته، فنراه يقول: ” لا يهم متى وأين ستموت ، المهم أن تعيش وتموت حراً “، كما نراه يطلب أن يتصور مع المولود الجديد وكأنه يسلم الراية للمستقبل القادم، فجعل الكاتب جمل حواره دائماً ما تعطى انطباع الحكمة والشكر، حتى فى صراعه الدائم مع ” غنام” الذى تظهر رمزيته أيضا من خلال الإسم الذى يمثل رأس المال المسيطر الذى يعمل تاجراً فى الثروة الحيوانية، ولا يهمه سوى المادة ، فتحاط هذه الشخصية ” شاكر” بتفاصيل تحمل رمزية الماضى، فيشتد ولع “شاكر” طوال الأحداث بحب الفنان “بليغ حمدى” الذى أسمى إبنه على إسمه، فجمل حوار الشخصية دائماً ما تتحدث عن الحرية والاختيار، و دائماً ما يعد مفتاح لقراءة بعض المشاهد، مثل نطقه بعبارات ” الذات والقوة ” والذى نرى حكمته تتضح أيضاً داخل المصعد، وتظهر من خلال شخصية المهندس المريض النفسى ” جلال أبو الوفا” الذى يتفهم حديثه وطبيعته ودائماً ما يحنو عليه، فترتبط دلاله موت ” شاكر” بموت العلم والثقافة والفن بل وبالماضى والرقى ، الذى دلال عليه المخرج فى التترات كمثله مثل ” عاطف الطيب” وغيره من الرموز الفنية، والذى ارتبط موته بموت ما ظل أن يدافع عنه وهو بيع المكتبة أى بيع العلم لرؤس الاموال المتحكمة التى لا يهمها سوى المال.
بين عالمين
وتأتي رمزية إسم شخصية ” عارف” الذى يعمل حارس العقار المشئوم، والذى يظهر دائماً على غير رمزية إسمه، فهو ينتمى للطبقة المهمشة، فجعله المؤلف يمثل الوجه الأبله طوال الأحداث، فهو يسأل أسئلة غير منطقية، وفجأة يجعله المؤلف أيضاً ناطقاً بعبرات معادلة لحالة المصعد النفسية والجسدية، ففجأة وبدون مبرراً نراه ينفجر بمعاناته فى حديث تلفزيوني يتحدث فيه عن غرفته التى لا تختلف عن معاناة المحتجزين ، والتى لا نراها ولو لمرة واحدة فقط ، كى نتشارك معه حجم هذه المعاناة الذى يعانيها داخل غرفته هو وأسرته المكونة من ستة أفراد محتبسون بداخلها طوال حياتهم ولا يستطيع أحد الشعور بهم وعلى النقيض نجد المحتجزون، لا يستطيعون احتمالية الحبس داخل المصعد ، لمدة صغيرة ، فكان من المفضل أن يتم تعميق هذه الشخصية التى تدل على هذا الفهم، أو نطقها بجمل تدل على هذا الوعى من حين لأخر، أو الاكتفاء من خلال صورة المنزل التى توضح هذا التشبيه، أو جعل هذه الجمل على لسان مقدمة التقارير الدءوبة التى ترفض تقديم الكلشيهات مثل (تقرير شم النسيم ) كما هو المعتاد لرؤية برامج الإعلام فى الفترة الأخيرة على الشاشات، ولذا فجاءت رمزية الإسم فى غير مكانها، على الرغم من قوة دلالتها ، وذلك لأهمية هذا الربط الذى يعتبر من أقوى مشاهد العمل ، لأنه يحمل دلالة أعمق لهؤلاء المهمشون أقتصادياً واجتماعياً بل وسياسياً ، وكأننا انتقلنا إلى عالم أخر من المصعد إلى عالم المهمشون ، الذين يتشابهون فى المعنى والمساحة ، ويختلفون فى الطبقة.
رمزية الصراع بين النمطية ونوازع الشخصية
ثم يقدم لنا المؤلف رمزية “العلم والجدال” من خلال شخصية “حميد” الذى يعمل معلم جامعى لمادة الفلسفة الذى يمثل الجدال بل والصراع الدائم مع ” الإرهاب ” المتمثل فى شخصية “الشيخ سيد” ، الذى يجعله المؤلف فى النهاية منتصراً على الجميع حتى على رجال الأمن فى مشهد صريح لانفجار الضابط نتيجة القنبلة، فقدم لنا المخرج هذا الصراع المباشر فى أكثر من لقاء تحت عنوان المواجهة، والذى قدمه المخرج والمؤلف بصورة نمطية ومعتادة على مستوى الشكل والفكر معا لشخصية الإرهابى الذى يبرر كل الوسائل من أجل مصلحته والذى يشرع كل الأحكام حتى الموت، وعن شخصية “حميد” الذى نراه يمتلك نزاعات الخير والشر ،فهذا جانب جيد يحسب للمؤلف فى رسم الشخصية الغير ناصعة البياض، وتأتى رمزية الإسم هنا مناسبة تارة وغير مناسبة تارة اخرى .
رمزية الفن والشخصيات الإبداعية
وعن رمزية الفن ، جعل المؤلف لعالم الفن الجانب الأكبر ، فقدم شخوص متعددة بل قدم مجتمع مكتمل الأركان ، فمنه الممثلة الكبيرة ” فاتن سرور” التى تعانى من الإيجو(هوس النجومية ) نتيجة اختفاء الأضواء، والذى عبرت عنه الصورة بشكل جيد يحسب للمخرج فى مشهدين من أهم مشاهد العمل مستخدما حركة الكاميرا التى تكشف خلو منزلها من الأثاث بالتزامن مع حديثها فى الهاتف مع المخرج الذى يعرض عليها أحد الأدوار وهى تخطو بخطوات إلى الأسفل على الدرج فذلك المعنى الذى يوضح سقوطها المادى والفنى ، وعن تعبيرات الوجه والصوت معا التى تعطى الإحساس بالتعالى فى نبرة الأداء الصوتى والتى تعكس كماً من مشاعر الألم والفرحة والتوتر معا فى آن واحد، وعن مشهدها الأخر داخل الغرفة وهى أمام المرآة وكأنها تحدث المخرج، الذى يحمل معنيان ، الأول كخدعه للمشاهد وكأنه داخل الكادر وأمام المخرج بالفعل، ثم نكتشف عن طريق حركة الكاميرا أنها تقوم بالتدرب على الطريقة والكلام التى تتحدث بها أمام المخرج وهنا تكمن الرمزية بإشارة ذكية سريعة من مخرج العمل لرصد معاناة هذه الشخصية نتيجة ابتعادها عن التمثيل لفترة طويلة، كما قدم نموذج آخر، من خلال الممثلة المتسللة إلى عالم الفن وهى شخصية “رؤية” التى تتحول إلى النجمة الكبيرة ” ريهام صدقى “، فرمزية الإسم هنا تحمل جزءاَ من الشخصية، ومن أحداثها فهى ترى أنها لا تمتلك إلا جسدها ودهائها للدخول إلى عالم الفن بواسطة الصورة النمطية للمنتج “أشرف إسماعيل” المادى الشهوانى التى رأت أنه المفتاح السحرى ، ولهذا قررت أن تترك زوجها ” عوض” ولكنه اعترضها فقامت بسجنه كى يتاح لها الحرية، كما قدم المخرج أجواء مكاتب أختبار أداء الممثلين، وكأنه نوع من كسر الحاجز الرابع لمعرفة ما يحدث داخل هذا العالم، كما أثار قضية أو ظاهرة النجم التى انتشرت بوضوح هذه الفترة ، الذى يفرض تداخلاته حتى على المخرج من خلال شخصية المخرج ” وليد” الذى يعانى أن يفقد عمله بسبب المنتج والممثلة المتسللة “ريهام صدقى ” الذين يفرضون عليه وجود الممثلة الشهيرة” فاتن سرور” لأداء دور صغير أمامها فقط كنوع من الإسقاط ولعقدة النقص لهذه الممثلة ، وتكمن المفارقة فى تواجد الممثلتين داخل المصعد ، وتكملة لعالم الفن أنتقل المؤلف أيضاً إلى عالم الأغنية وخاصة أغنية المهرجان ، والعالم الخاص بها سريعاً فقدم منها شخصية “عوض” الزوج السابق للممثلة ” رؤية“، الذى يحاول أن يكون مغنى مهرجانات ، من خلال موهبته الصوتية ، ولكنه يفشل فى هذا المجال ، كما قدم المؤلف أيضاً شخصية مغنى المهرجانات الحقيقى ” عمرو كمال” ، ولكن كان هذا الجزء غير مبرر خاصة وأن تم تقديم هذه الشخصية فيكون بغرض تجارى ليس إلا ، فحذفه لن ينقص من إيقاع الأحداث ، وإن أراد الكاتب أن يقول أن هذا هو لون الفن السائد، فكان لابد من أستبداله بممثل أخر غير الممثل الحقيقى، وعن وجوده كمبرر لصعود الصراع الخاص بشخصية ” عوض ” فكان الاكتفاء، بسجنه على يد زوجته للتخلص منه كان بالفعل مبرراً قويأ لصراعه الداخلى الذى يجعله متحولأ حتى على مستوى الطابع الشكلى الدينى، وإنشاده للموشحات الدينية، وصراعه الداخلى للأخذ بالثأر منها كما خطط ، وتكمن المفارقة أيضاً بتواجد ” عوض” داخل المصعد .
رمزية التهميش
وأيضا تتكامل شبكة الصراع الرئيسى بالصراع الفرعى من خلال شرائح المجتمع المهمش ، ومنهم البلطجى ” رفعت ” و الخادمة “كريمة ” اللذان يتم استخدامهما كمبرر للصراعات الأساسية، فشخصية “رفعت” الذى تحول من مجرد بلطجى محاولاً الابتعاد عن هذا الطريق ولكن الفقر وفقدان الصبر كانوا دافعان لعودته لرتبة أعلى فأصبح زعيم عصابة المتطرف الإرهابى ” سيد” ، والمسئول عن عملية التفجير التى ستحدث داخل العقار، وشخصية ” كريمة” التى تمثل الوجه الكاذب لشخصية ” حميد” فهو ينكر صله القرابة التى تجمعه بها ، وعن طريق صدامها مع زوجته ” علا” يرسلها ” حميد ” تعمل كخادمة لصديقه المهندس ” بطرس ” الذى يعتنق الديانه المسيحية ،فهو الصديق الوفى والواعظ أحيانا ، وهذه إشارة جيدة تحسب للمؤلف فالعلاقة هنا بسيطة بدون المباشرة الفجة للترابط الدينى المعتاد ، وأيضاً تعتبر شخصية ” بطرس ” حلقة وصل لظهور شخصية “علا ” زوجة “حميد” وكأبنه أخت للأرهابى ” سيد” .
بين رأسمالية وشيوعية الشخصيات
ثم تظهر شخصية “سامى” الذى يرمز لبعض شرائح السلطة ورأس المال المستغل ، فهو الذى يستغل الفتيات جنسيأ ويبتزهم عن طريق مقاطع الفيديو الذى يقوم بتصويرها لهم ، والذى يعبر عن بعض الجوانب النفسية للشرائح الديكتاتورية ونظرتها للعامة من خلال فكرة نفسية وهى فكرة “الرفض” التى تمثل لهم ذعز الذى يجعلهم يصنفون من يفعل ذلك بالعدو ، فقدمت هذه الفكرة بصريا فى أكثر من مشهد وكان أبرزهم فى مشهد العروس الذى قامت بالانتحار بسبب الابتزاز ، مستخدما فى هذا المشهد القطع على من خلال اللقطات القريبة التى توضح سقوط الضحية من خلال وجه العروس وعينيها و انقسام وجهها ودقائق بندول الساعة والموسيقى التى تنم عن التوتر، وبينما على النقيض نجد“سامى” يأكل التفاحة ثم يقذفها داخل سلة المهملات وبالتوازى نكتشف أن العروس انتحرت، فهنا تمت معالجة هذه الفكرة فى صورة الجنس الذى يسيطر على هذا الشاب المدلل وهذه معالجة تحسب للمؤلف وللمخرج فتقديمها غير نمطى، واتصالاً مع هذه الفكرة ، وهى فكرة الرأسمالية المستغلة، تأتى شخصية ” المهندس جلال” و أصابته بالجنون عن طريق مدير مكتب والد “سامى” المريض جنسياً ، الذى يدعى “مدحت ” الذى سرق أحد مشاريعه ولهذا السبب فقد عقله ، فهو رمزاً للأحلام الذى يسطو عليها أصحاب النفوذ، وهذا يذكرنا بفيلم ” سمع هس” كما فعل “غندور” الأوبرالى الشهير ذو النفوذ بالسطو على لحن البسطاء “حمص وحلاوة” ، ولكن هنا كان من الممكن حذف هذه الشخصية، وهى شخصية ” مدحت” فلا تؤثر على سير الأحداث، فكان من الممكن أن يكتفى ” جلال” بسماع ذكر إسم والد “سامى” لنكتشف أنه السبب فى هذه المأساة ،التى تكون المبرر لمحاولة قتل “سامى” على يد المجنون ” جلال” بالسكين حين تردد أسم والد ” سامى” كاملاً فحاول قتل “سامى” ومن هنا يضعه المؤلف فى نفس الشعور الذى كان يتلذذ به فى ابتزاز الفتيات وتسببه فى قتل بعضهم ، و بجملة ذكية سريعة يضعها المؤلف لتأكيد الفجوة بين الطبقات، تظهر من خلال التشابك الأخر بين “سامى ” مع “عوض” بسبب سقوط ساعة يد ” سامى” ، فبمحاولة “عوض” أن يتأسف له ،فقال “سامى ” بنظرة استعلائية : ” أنا عارف الشيوعيين اللى زيكو ” وأيضأ يقدم المؤلف شخصية الفتاة “مرام” التى تتواجد داخل المصعد مع هذا الشاب” سامى “ لتأخذ بالثأر منه لصالح العديد من الفتايات ، ولصالح صديقتها العروس المنتحرة سلفاً، من خلال توهمه بالحب من جانبها.
تفوق الأداء
لا ينكر الجهد المبذول لرسم شبكة العلاقات المقدمة للشخصيات والصراعات والازمات الذى أعتمدت فى الخروج عن المألوف فى أجزائها ، من خلال المفارقات ، و مع توافق الأداء التمثيلى المقدم لمعظم عناصره ، وفى مقدمتهم أحمد بدير ، سوسن بدر ، محمد ثروت ، محمود الليثى، أحمد السلكاوى ، إسماعيل شريف ، على شوقى ، محمود البزاوى ، عمرو صالح ، حتى وأن أحتفظ بعضهم بنفس الاداء النمطى، ومنهم هانى سلامة ، درة ، نجلاء بدر ، مصطفى درويش .