فى أعقاب الفتح الإسلامى لمصر انتقلت العاصمة المصرية من الإسكندرية إلى مدينة “الفسطاط”، و التى دشنها والى مصر عمرو بن العاص عام 641 ميلادية إلى جوار حصن بابليون، وفى عصر الدولة العباسية أسس صالح بن على وال العباسيين على مصر مدينة “العسكر” عام 751 ميلادية لتصبح العاصمة ومجالها الجغرافى الآن هو منطقة السيدة زينب، وفى العام 888 ميلادية يؤسس أحمد بن طولون فوق جبل يشكر وسفح المقطم عاصمة مصر الجديدة”القطائع” ومجالها الجغرافى الحالى منطقة تلال زينهم وقلعة الكبش، وفى عام 969 ميلادية أنشأ جوهرالصقلى مدينة المنصورية شمالى مدينة الفسطاط و مجالها الجغرافى منطقة الجمالية والأزهر، حتى جاء المعز لدين الله إلى مصر ليجعلها عاصمة لمصر وللدولة الفاطمية مسمياً إياها “القاهرة”.
ومع الوقت تمددت هذه المدن الأربعة والتحمت بشكل تلقائى غير مخطط، وانضوت جميعاً تحت مسمى القاهرة، تلك المدينة العتيقة التى تجاوز عمرها العشرة قرون ونصف القرن، وتواترت على أرضها دول وعروش وبعد أن كان يقطنها هى ومن حولها من القرى والمدن بضعة آلاف صار بين أضلعها المتهالكة واحد وعشرون مليونا من البشر فتهاوت عبر السنين بنيتها، وتداعت طرقها وأزقتها تحت سنابك الزحام والتكدس، وتقيح جسدها ببؤر العشوائية منذ مطلع ثمانينات القرن المنصرم.
وخضعت القاهرة عبر المائة عام الماضية لمختلف الأنواع من العلاجات بيد أنها كانت علاجات مسكنة غير جذرية إلا من محاولات ضئيلة للتصدى القطعى الناجز لمشكلاتها لم يكتب لها النجاح وباءت بالفشل جميعها، إما لضعف فى إرادة القرار السياسى حيالها أو لمشاكل فى التخطيط أو لكلاهما معاً.
وهنا تثب إلى الذاكرة محاولة الرئيس السادات رحمه الله و التى أوصت اللجنه الفنية التى شكلها لدراسة مشكلات العاصمة العتيقة والتى ضمت فى عضويتها الدكتور محمد صبحى عبد الحكيم أستاذ الجغرافيا بجامعة القاهرة، وأول رئيس لمجلس الشورى عام 1980 بضرورة بناء عاصمة جديدة، فبنيت مدينة السادات بادئ الأمر لهذا الغرض، بيد أن المحاولة فشلت إذ توفى رحمة الله عليه عام 1981، وفى عصر الرئيس الراحل مبارك تعالت بعض الأصوات لأجل نقل مربع الوزارات بوسط المدينة إلى أطرافها و لكن الفكرة لم تكتنفها إرادة التنفيذ المطلوبة حتى جاء العام 2007حينها صرح الدكتور أحمد نظيف رئيس الحكومة آنذاك فى التفكير ببناء عاصمة إداريه جديدة كحل جذرى للخروج بالقاهرة من مشكلاتها العتيدة فإذا بالرئيس مبارك نافياً بشكل قطعى هذا التصور الذى جاء على لسان رئيس حكومته بزعم أنه رفاهية لا مجال لها.
وهكذا تظل المدينه العتيقه كالبقرة المقدسة فى الهندوسية..فاختزلت محاولات التصدى لمعضلاتها فى توسعة بعض المحاور المرورية وبناء الكبارى والأنفاق والتى لم تحقق بالطبع الوصول إلى النتائج المرجوة.
وذاب جمال المدينة التاريخية فى قبح التكدس و الزحام والعشوائية وضعف إرادة اتخاذ القرار المناسب، لكنه على أية حال كان أسلوب النظام وقتها فى معالجة الأزمات عبر المسكنات والسياسات الروتينية الرتيبة والتحسب الدائم لأى صدام من أى نوع .
و أميل إلى الرأى مع البعض بأن أحداث العنف التى إندلعت فى أعقاب القرارات التى ألقاها الدكتور عبد المنعم القيسونى بمجلس الشعب يناير 1977 قد شكلت عقدة أصابت يد النظام على مدى حكم الرئيس مبارك بإرتعاشة التوجس و الخيفه رغم تقديرنا لدور الرجل فى الحفاظ على استقرار البلاد و أمنها لكنه عصر “الفرص الضائعة” كما يصفه السياسى البارز الدكتور مصطفى الفقى.
و إذا علمنا أن تعداد سكان مصر كلها عام 1800كان 2.5 مليون نسمة وفى عام 1952 بلغ 18 مليون نسمة و الآن 2021 ما يربو عن 100 مليون نسمة، وفى منشور المجلس القومى للسكان مايو 2020 فإن التطور المذهل فى زيادة سكان القاهرة الكبرى وحدها بلغ ما يناهز 21 مليون مواطن فى العام 2020، فى حين كان قد بلغ 7 مليون 349 ألفا فى العام 1980 فإن ذلك ولا شك يدفعنا إلى فهم و استيعاب مخطط التمدد العمرانى الذى تنتهجه الدولة حالياً لأجل مضاعفة رقعة المعمور المصرى من 7 إلى 14% ببناء مايزيد عن 22 مدينه جديدة أبرزها العاصمه الجديدة تلك التى يمكن من خلالها امتصاص جزء لا بأس به من الكثافة السكانية بالقاهرة والتى يقطنها وحدها ما يزيد عن خمس سكان القطرالمصرى.
هى أبدا ليست رفاهية أو ترفاً إنما هى حتمية تمليها خصائص التاريخ وحقائق الجغرافيا و معطيات الواقع الديموجرافى..إن الأفكار المفضية إلى حل الإشكاليات ربما تكون دون شك هى العبقرية لكن فى تقديرى تظل أفكاراً حبيسة عقول أصحابها.. العبقرية الأكبر تكمن فى التصدى و الجرأة والقدرة على التنفيذ وتحويل التصور من الفرضية إلى الواقع ومن الحلم إلى الحقيقة فما أكثر ما تدخره أدراج المكاتب وصفحات الكتب.
فالسد العالى فكرة قديمة نبتت فى كثير من العقول الخصيبة منذ زمن العالم ابن الهيثم بعصورنا الوسطى حتى أضحى حقيقة لا خيالا بعزيمة الرجال وشجاعة القرار و إرادة التنفيذ و البناء ليصدق ما يقوله شوقى ..
و ما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
و ما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا
حفظ الله مصر وطناً وشعباً وجيشاً.