مقالات

د. هانى حسين يكتب: حديث الإليزيه بين الماضى والحاضر

فى  كتابه “العوده إلى الإيمان ” ترجمة الدكتور ثروت عكاشه رحمه الله، يقول الدكتور هنرى لينك وهو أحد علماء علم النفس التجريبى المرموقين:”الفكر فى حد ذاته ليس غايه ولكنه ألة يستخدمها الإنسان ليكيف نفسه مع قيم الحياة وأغراضها التى لا يمكن إدراك كنهها ..فكما أن الأسنان للمضغ بها لا لمضغ نفسها ..فكذلك العقل قد وهب للتفكير فى سواه لا للتفكير فى إستكناه نفسه..فالعقل ألة نعيش بها لا لأجلها” .

ويستطرد لينك قائلا: ” ليس هناك شك فى ان الحضارة الغربية ألّهت العقل والفكر وجعلتهما غايه”… ويخلص لينك فى كتابه إلى أن غياب القيم الدينية و دوافع البذل والعطاء وحب الأخر والتضحية لحساب الإنكفاء على الذات لهو أحد أهم الأسباب المباشره للسواد الأعظم من الحالات المرضية التى تعهدها بالعلاج.

وهكذا يتلاقى هنرى لينك مع ما سبق وتعرضنا له بالمقال السابق من متلازمة نفسيه غربيه تجاه الأديان والقيم الدينيه وهذه العقدة القديمة رغم فتورها نسبيا بفعل عامل الزمن وتصدى بعض العقلاء لها من امثلة لينك وغيره كثر كالشاعر الإنجليزى ماثيو أرنولد والذى عمل أستاذا بأكسفورد فى نهايات القرن التاسع عشر والذى يصف فى كتابه”الثقافه والفوضى” حالة التمزق و الفوضى وفرط الأنانيه بالمجتمع الحديث، ويؤكد هنا مليا على أهمية القيم الدينيه والدين فهو يتوجه إلى أعماق النفس من مشاعر وأحاسيس، و أن للدين قوه أكبر مما يتصوره المرء فى توحيد النظرة الإنسانية فى المجتمع الواحد ففيه التسامى الأخلاقى..إلا أن إعلاء مرتبة القيم الإنسانية إلى منزلة تفوق القيم الدينيه والروحيه هى بلا شك أزمة ظاهرة ومنهج لاذب فى الوجدان الغربى لا زال ..

تمخضت عنه ولا شك أحداث تاريخية قديمه تطرقنا لها أنفا وتبدت هذه النظرة الغربية بجلاء فى معرض النقاش المقتضب بين الرئيسين السيسى وماكرون بقصر الإليزيه فى أخر زيارة خارجيه للرئيس المصرى…حين قال السيسى إن القيم الإنسانية ولا شك محل تقدير و إحترام من الكافه فهى قيم نتوافق عليها كبشر إلا أنها تظل لدينا دون القيم الدينيه التى أتى بها رسل رب البشر ..وهو ما ذهب بماكرون إلى أن يؤكد مجددا على أن القيم الإنسانية هى صاحبة السياده دون غيرها بالمجتمع الفرنسى …

وهكذا كان الحوار قدر رقيه قدر ما أظهر فلسفتى الغرب والشرق بجلاء…والحقيقه التى لا مراء فيها ان الغرب أحال العالم جحيما فى حربيه العالميتين الأولى والثانيه وهو مستظل بمظلة القيم الإنسانيه و أن الشرق أيضا تخلف عن ركب الحضاره يوم أن درنا أدراجنا متشبثين بتلابيب الماضى السحيق دون أدنى إلتفات لمتغير الزمان وقد أفرطنا بالتوقف بحثا فى أمر العقيده وقد صرفناالولوغ فيها عن بلوغ أداب الأديان و أخلاقها ومعاملاتها… كالصبى المتمرد على مرحلته العمرية الفتيه إلى ما دونها من مراحل الرضاع..

وتغافل الشرق عن حقيقة أن العقيدة وإن كانت هى مركبة النجاة من الدنيا الفانية إلى الأخرة فإن الأخلاق والمعاملات والأداب هى وقود هذه المركبه ولا سبيل لبلوغ هذة المركبة إلى هدفها دون التزود بالوقود..

وتبقى الإجابة على سؤال أخر المقال السابق وهو سؤال تعددت فى الإجابة عليه كثير الرؤى؛ و فى تصورى أن الغرب فد ساعد بشكل مباشر وغير مباشر فى تصدير متلازمته النفسية التاريخية تجاه الأديان إلى الشرق؛ ولربما كانت البدايات أثناء إحتلاله لبلدان الشرق فى القرن التاسع عشر بإثارته للنعرات الطائفية تارة وتشجيع جيوب التطرف تارة؛ و أظنهما غير منبتين الصلة عن بعضهما والأمثلة فى هذا السياق ليست محدودة مثل الأخوان والإنجليز فى النصف الأول من القرن العشرين والأمريكان والإخوان و الحركات الإسلاميه المنبثقه عنها فى النصف الثانى من ذات القرن و التى إستخدمتها فى المواجهه مع السوفييت بأفغانستان؛ ولربما تعود بداية هذا الإتصال الأمريكى إلى العام 1954 حين إلتقى إيزنهاور مع كبار قادة هذه الحركات حول العالم كما ورد بكتاب “لعبة الشيطان” للكاتب الأمريكى روبرت دريفوس….فالغرب لم يبدى أى ممانعه لهذة التيارات المتشددة بادى الأمر فى مراحل النشوء والتطور بل يزعم الكثيرون أنه هو من وفر لها الحاضنه الخصبه للنمو و الإنتشار وهذا الأمر إما لضمان السيادة والنفوذ لنفسه على مستعمراته فى الشرق أو إستخدامهم هذه الحركات لماّرب سياسية محدده وقت الحاجه أو لتنفير الشرق من هذه التيارات وتمرده على فكرة القيم الدينيه كما سبق وإرتد هو عنها على أثر طغيان نفوذ الكنيسة بالعصور الوسطى على مجمل أمور الحياة والسياسة بالتشدد والغلو والخرافة….ويجدر القول فى هذا الصدد بأن إعمال العقل فى نبذ الخرافة لهو أحد تعريفات الإيمان المحترمة عند اهل الحكمة والرشد وهو ما أكد عليه القرأن الكريم فى عديد المرات…فلا تفريط الغرب يشفع ولا إفراط المغالين و المتشددين بالشرق يقنع.